في قلب الجزيرة العربية، حيث تترامى الرمال وتنتصب الهضاب في صمتها العريق، وُلدت قبيلة السهول من رحم السلالة العربية الأصيلة، تلك السلالة التي لا تُقاس مجدها بعدد الرجال فقط، بل بشرف النسب ونقاء الدم. لم تكن السهول قبيلةً طارئة على الجغرافيا أو التاريخ، بل كانت امتدادًا حيًا لدوحة النسب العدناني المبارك، تتفرع من فروع بني كلاب، أحد أركان قبيلة عامر بن صعصعة القيسية.
نسب لا تشوبه شائبة
ينحدر السهول من سهل بن أنس بن ربيعة بن كعب بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وهو نسب يجمع المجد من طرفيه: مجد قبلي قاتل بالسيوف في بوادي نجد، ومجد نبوي يمتد إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ثم إلى النبي محمد ﷺ، حيث يلتقي النسب في الجد الثامن عشر مضر، فيتحد الدين بالأصل، والبطولة بالكرامة.
بنو عامر بن صعصعة – الكتف الذي أسندته الفروسية
من أجل فهم مكانة السهول في خارطة النسب، لا بد من العودة إلى بني عامر بن صعصعة، القبيلة التي كانت سيدة البوادي، تتزعم التحالفات وتخوض الحروب بعزة، وتنجب الفرسان والشعراء والساسة. كانت بطون عامر تشكل مع بني هوازن وبني سليم وتيم وغيرها من قيس عيلان قوة فتاكة، لا يُستهان بها لا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام.
وكان لبني كلاب، وهم الفرع الذي خرجت منه السهول، النصيب الأوفر في المجد. فهم من أنجبوا لبيد بن ربيعة، أحد شعراء المعلقات، ومن خرج منهم الضحاك بن سفيان الكلابي، الصحابي الجليل والقائد الشجاع في عهد النبي محمد ﷺ.
بني كلاب… وحجر الزاوية في نسب السهول
حين نُبحر أكثر في هذا النسب، ندرك أن قبيلة السهول هي الوريث الشرعي لبطون بني كلاب الذين عاشوا في نجد منذ ما قبل الإسلام، وتفرقوا بعد الفتوحات الإسلامية بين الجزيرة والشام والعراق. بعضهم اتجه شمالًا وأسّس إمارة في حلب بقيادة بني مرداس، والبعض الآخر استقر في بطاح نجد، حيث ظل متمسكًا بالبادية، ومن تلك الجذور النجدية نبتت السهول.
سهل بن عامر، الجد الأكبر للسهول، لم يكن شخصية عابرة في صفحات التاريخ. بل كان رجلًا ذا أثر عميق، تتناقله الروايات وتعلو به النسبات، حيث تفرعت منه عوائل وأفخاذ حملت اسمه وفروسيته، وساهمت في تأسيس كيان قبلي ظل متماسكًا على مر العصور.
تقاطع النسب النبوي والشرف العربي
قبيلة السهول، بشهادة النسّابين، لا تملك فقط نسبًا عاليًا إلى عدنان، بل تحمل في عروقها خطًا من نسب إسماعيل عليه السلام، وتتقاطع مع النبي ﷺ في سلالة مضر بن نزار. وهذا ليس مجرد فخر معنوي، بل هو شرف يُحمّل القبيلة مسؤولية الحفاظ على سلوك نبيل، وأخلاق كريمة، وقيادة رشيدة.
وعبر القرون، كانت قبيلة السهول من القلائل الذين حافظوا على نقاء النسب دون انقطاع أو اختلاط، فسجّلت اسمها في دواوين العرب، وفي كتب الأنساب مثل “نسب معد واليمن الكبير” لابن الكلبي، و”جمهرة أنساب العرب” لابن حزم، حيث يرد ذكر بني كلاب كأحد فروع بني عامر، وتُحفظ هذه الصلة في السجلات التاريخية للقبائل المعاصرة.
السهول… حين يتجسد النسب في هوية حية
ليس النسب في قبيلة السهول مجرد سطر يُكتب أو مشجرة تُعلق على الجدران، بل هو هوية حية. يُدرَّس للأبناء منذ صغرهم، ويُتغنَّى به في المجالس، ويُستشهد به في المواقف. يعرف السهليّ أن خلف اسمه وقبيلته وقوفًا طويلًا من المجد، وأن كل خطوة يخطوها تمشي على صدى أقدام أجداده الذين صنعوا تاريخًا لا يصدأ.
بهذه الجذور العميقة، ينطلق الحديث عن قبيلة السهول، لا كقبيلة معاصرة فحسب، بل كامتداد حي لتاريخٍ يمتد من نجد حتى أعماق الجذور النبوية، ويشكل بداية حقيقية لقصة لا تزال تُكتب حتى اليوم.
الجد الأكبر سهل بن عامر وتكوين الهوية
في كل أمة من الأمم، هنالك اسم يُضاء في الظلام، ويُذكر في المجالس، ويصبح عنوانًا للهوية. وفي قبيلة السهول، لا يختلف اثنان على أن هذا الاسم هو سهل بن عامر، الجد الذي سُميت عليه القبيلة، وبه تشكّلت ملامحها الأولى، ومعه ابتدأت رحلة التحول من فرع في بني كلاب إلى كيان مستقل يحمل من أصالة النسب ما لا يُشترى، ومن الكرامة ما لا يُقاس.
من الفارس إلى الرمز
تقول الروايات الشفهية والمصادر الموثوقة إن سهل بن عامر عاش في زمن كانت فيه القبائل تُعرف بقادتها، والرجال يُقاسون بمواقفهم لا بأعدادهم. وكان هذا الجد الأصيل من بني كلاب، من سلالة الفروسية والعزة، في عصرٍ سطع فيه اسم ابن عمّه الصحابي الجليل الضحاك بن سفيان الكلابي، أحد أعيان قومه وقادتهم، وسيّاف رسول الله ﷺ.
كان الضحاك من سادات بني كلاب، ومن وجهاء المدينة الذين نزلوا بباديتها، وكان له موقف مشهود في فتح مكة حين ولاه النبي ﷺ على بني سليم، وقال في حقه:
“هل لكم في رجل يعدل مائة؟ يوفّيكم ألفًا.”
فكان لوحده يعدل مئة فارس، ووُصف بأنه رأس بني سليم، وأُعطي لواءهم، وأُرسل في سريّة باسمه، وتولى جمع صدقات قومه، وشهد له عمر بن الخطاب في القضاء، وروى عنه كبار التابعين كالحسن البصري وسعيد بن المسيب.
هذا الإرث المباشر بين سهل بن عامر وابن عمه الضحاك لم يكن مجرد قرابة نسب، بل كان امتدادًا لتقاطع الفروسية مع الصحبة النبوية، والقوة مع الحكمة، والإيمان مع الولاء. ومن هذه البيئة المتشبعة بالمجد، انطلقت نواة قبيلة السهول لتُشكّل شخصيتها وهويتها المستقلة.
من بني كلاب إلى “السهول”
لم تكن تسمية القبائل العربية أمرًا عشوائيًا، بل كانت تخرج من قلب الواقع وتحمل دلالات عميقة. ومع الوقت، بدأ أحفاد سهل بن عامر يُعرفون بـ”السهول”، نسبةً له، وليس لبني كلاب مباشرة، وذلك لتمايزهم في الديار والانتماء والتجمع السياسي. وهذه المرحلة من التشكل، تعد من أصدق المراحل في تطور أي قبيلة، لأنها تعني الانتقال من التبعية إلى الكيان.
واختارت السهول أن تحافظ على إرث بني كلاب، لكن بهوية جديدة أكثر استقلالًا، تعكس تحولات الزمن وتغير الجغرافيا. ولهذا، نجدها في المصادر النسبية تُذكر بصيغة “السهول من بني كلاب”، مما يدل على استمرار الصلة، دون إلغاء الذات الجديدة.
التميز المبكر في البادية
بين العارض والعويرض ورويغب، حيث كانت بدايات السهول، عاش أبناء سهل بن عامر حياة البادية الحرة، فصاروا رعاة، وفرسانًا، وشعراء. وما لبثت القبيلة أن توسعت، وصارت تُعرف بالقوة والنخوة، وحُسن الجوار. فبرز فيها شيوخ يُشار إليهم بالبنان، وبدأ اسم “السهول” يعلو في المحافل القبلية.
وقد أبدت القبيلة في تلك المرحلة حسًا قبليًا متقدمًا، حيث لم تعتمد فقط على النسب، بل بنت هويتها على أربعة أركان: الكرم، والشجاعة، والوفاء، والاستقلالية. وهي صفات لم تكن مجرد كلمات، بل واقعًا حيًا ظهر في تعاملهم مع القبائل الأخرى، وفي حروبهم، وفي مجالسهم.
بناء التقاليد وصناعة الشخصية الجمعية
شيئًا فشيئًا، بدأت تتشكل التقاليد الخاصة بالقبيلة، من نظم الحكم داخل العائلة، إلى قوانين الفصل، وأسلوب استقبال الضيوف، وتعليم الأبناء. وكان لكل بطن من بطون السهول خصوصيته، لكن الجميع ظلوا تحت راية واحدة، يستمدون من الجد سهل بن عامر احترامهم، ومن بني كلاب عمقهم، ومن بني عامر بن صعصعة شرعيتهم الكبرى.
وقد لعبت المرأة السهلية دورًا جوهريًا في الحفاظ على هذا النسيج، من خلال تعليم الأبناء، ونقل القصص، وتثبيت مفاهيم الانتماء، مما أعطى القبيلة ثباتًا واستمرارية في وجه التحديات.
سهل بن عامر: أكثر من اسم
اليوم، لا يُذكر سهل بن عامر كجد فقط، بل كرمز. وكما أن قبائل أخرى تفتخر بأسماء مثل عنزة، وتميم، وشمر، فإن السهول يفخرون باسم “سهل” كرمز للثبات، والشجاعة، والكرم. بل إن كثيرًا من الفروع الحديثة لا تزال تُسمى “بن سهل وبني سهل” في الوثائق القديمة، نسبة مباشرة له، وكأن الزمان لم يُبدل الاسم رغم القرون.
وفي عصر كان الأنساب فيه تُنسى، والقبائل تتداخل، استطاعت قبيلة السهول أن تحافظ على اسمها وشخصيتها، وهو إنجاز لا يُستهان به في ثقافة شفوية مثل البادية.
رائع، نكمل مع:
مواطن القبيلة وانتشارها في الجزيرة والخليج
في أعماق الصحراء، حيث تبدأ الشمس ولا تنتهي، وحيث تسكن الرمال ذاكرة الأجداد، كانت لديار السهول رائحة لا تُشبه سواها. لم تكن الديار مجرد مواضع للعيش، بل كانت امتدادًا للكرامة، وموطنًا للبطولة، ومسرحًا للولاء والكرم العربي. ومنذ أن استقرت قبيلة السهول في قلب نجد، بدأت تكتب لنفسها قصة انتشار قلّ أن تجد لها مثيلًا، حافظت خلالها على توازن دقيق بين الجغرافيا والانتماء.
نجد… الحضن الأول
نجد، ذلك القلب الصلب للجزيرة العربية، كانت المنبع الأول والموطن الأصلي لقبيلة السهول. استقرت القبيلة في مناطق العارض، العويرض، ورويغب، وهي من أكثر المناطق أهمية في نجد الوسطى، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي، بل لأنها كانت مركزًا استراتيجيًا تتقاطع فيه الطرق بين الحواضر القديمة والبوادي الشاسعة.
في تلك المواضع، بنت السهول مضاربها، وأقامت حواضرها، وكانت مضاربهم ملاذًا للضيف، ومنطلقًا للفارس، ومدرسة للكرامة. وكان من الطبيعي أن تُعرف القبيلة هناك بالشجاعة والبأس، لما لتلك المنطقة من طابع عسكري وتاريخي.
التوسع الطبيعي: من نجد إلى الخليج
لكن كما الماء لا يبقى ساكنًا، لم تبقَ قبيلة السهول محصورة في قلب نجد. فمع تغير الظروف السياسية والاقتصادية، وبسبب طبيعة القبيلة المتنقلة والساعية للفرص، بدأ أبناء السهول بالانتشار في الكويت وقطر والبحرين والإمارات.
وكانت الهجرات على مراحل:
- الكويت: شكلت إحدى المحطات الأولى، نظرًا لقربها الجغرافي من نجد، فاستقر عدد من العوائل السهليّة في الكويت منذ بدايات القرن الثامن عشر، وبرز منهم شخصيات مؤثرة في المجتمع الكويتي.
- قطر: دخلتها فروع من القبيلة وساهمت في تكوين المجتمع القطري الحديث، خصوصًا في المناطق الشرقية، ولا تزال العوائل السهليّة هناك تحتفظ بنسبها وتقاليدها.
- البحرين: بفعل التبادل التجاري والروابط الاجتماعية، وصلت بعض فروع السهول إلى البحرين، وتمركزت في بعض الحواضر، وكانت جزءًا من النسيج الوطني المتعدد.
- الإمارات: كانت القبيلة حاضرة في دولة الإمارات، لا سيما في المناطق الشمالية، حيث اختلطت بالفروع الأخرى من القبائل القيسية.
التمسك بالجذور رغم التوسع
مع توسع الرقعة الجغرافية لقبيلة السهول، كان يمكن أن يتلاشى اسمها تحت ضغوط البيئة الجديدة، كما حصل مع كثير من القبائل. لكن السهول كانت استثناء. فقد ظلوا متمسكين باسمهم، وهويتهم، ولهجتهم، وتقاليدهم، أينما حلّوا. وكان لكل فرع في كل دولة مجلسه، وشيخه، ورباطه القوي بجذوره النجدية.
كان شعارهم غير المكتوب: “ننتقل في الأرض، لكن لا نتخلى عن الأصل”.
خصوصية الديار القديمة
تحتفظ ديار السهول في نجد برمزية لا تغيب، فهي ليست فقط موطن النشأة، بل المعيار الذي يُقاس عليه الانتماء. فمن يسكن العارض أو العويرض لا يُعد مجرد ساكن، بل حامل للذاكرة، وممثل للصوت الأول للقبيلة. ولهذا، تحرص القبيلة على زيارة هذه الديار، وعلى تعليم أبنائها أسماء الآبار، والمواقع، والحدود القديمة، وكأنها تقرأ لهم من كتاب جغرافي مقدس.
رمزية الأرض في التقاليد الشفهية
في الأهازيج، والمرويات، والشعر النبطي، تكثر الإشارات إلى رويغب والعويرض وغيرها من مواطن السهول القديمة. وهذا يعكس حضور الأرض في الذاكرة الجمعية، ويمنح القبيلة بُعدًا لا يملكه إلا من عاش على أرضه وسقاها بعرقه ودمه.
في أحد المجالس القبلية، قيل:
“إذا ضاعت العارض من قلب السهلي، ضاع اسمه.”
وهذه الجملة ليست شعرًا، بل حقيقة تعكس العلاقة الوجدانية بين القبيلة وأرضها.
بين البادية والحاضرة
ما يُميز قبيلة السهول أنها استطاعت أن تتنقل بين البادية والحاضرة بمرونة مذهلة. فبينما احتفظت بجذورها في الصحراء، دخلت الحواضر، وأسست لنفسها حضورًا في المدن، فجمعت بين خشونة الرمال ورقة الطين، وبين الفروسية والتجارة، وبين الذاكرة والحداثة.
جميل، ننتقل الآن إلى:
بطولات في التاريخ وشهادة الميدان
ما من قبيلة عظيمة إلا وكان لها سهم في معارك التاريخ، وسطر في دفتر الشجاعة. وقبيلة السهول ليست استثناء، بل هي من أولئك الذين صنعوا الفارق حين تعثّرت الرايات، وحملوا السيوف يوم هربت الخطى. ولأن البطولة ليست شيئًا يُورّث بالكلام، بل تُثبت في الميدان، فقد أثبتت السهول على مرّ العصور أنها قبيلة تعرف متى تصمت، ومتى تقاتل، ومتى تنتصر.
ما قبل الإسلام: بني كلاب وصوت السيوف
قبل أن تتشكل قبيلة السهول بشكلها المعروف، كانت أصولها ممثلة في بني كلاب، إحدى أعمدة بني عامر بن صعصعة، تلك القبيلة التي كانت تُعد من أكثر القبائل شدة وبأسًا في وسط الجزيرة. عُرف رجال بني كلاب بالشجاعة، وبرز منهم شعراء فرسان مثل لبيد بن ربيعة، الذي كان لسانًا للفروسية وحاملًا لمجد القبيلة في معلقته الشهيرة.
وكانت قبائل تميم وبني أسد وسليم من أكثر من خاضوا معهم الحروب، لأن بني كلاب لم تكن قبيلة مسالمة في زمن الصراع، بل كانت نداً يُحسب له ألف حساب.
صدر الإسلام: من المواجهة إلى المبايعة
مع ظهور الإسلام، لم تدخل كل القبائل بسهولة إلى الدين الجديد. وكانت قبيلة بني كلاب من بين من واجهوا الدعوة في بدايتها، وشهدت حادثة سرية بئر معونة عام 4هـ استشهاد عدد من الصحابة على يد بعض رجالها، وهي واقعة مؤلمة في تاريخ السيرة النبوية.
لكن كما عرفت القبيلة المواجهة، عرفت أيضًا المراجعة، فدخل كثير من رجالها في الإسلام، وأصبحوا جزءًا من جيش الدعوة، ومنهم الضحاك بن سفيان الكلابي، الذي تولّى قيادة في عهد النبي ﷺ، وشارك في معارك الإسلام الكبرى.
وهنا بدأت قبيلة السهول – باعتبارها الامتداد الكلابي النجدي – تصوغ علاقتها بالدين الجديد ليس بالخضوع، بل بالشراكة، وقد ظلت روح الفروسية فيها تُقدَّم دومًا باسم الله، ثم القبيلة.
العصور الإسلامية: ثبات في زمن التقلّبات
في العصور الأموية والعباسية، ومع ضعف القبضة المركزية على جزيرة العرب، كانت القبائل تعود إلى سيفها لتفرض وجودها. وفي هذه الفترة، حافظت فروع بني كلاب في نجد، ومنها السهول، على سيادتها في محيطها، واستطاعت أن توازن بين الانتماء العربي، والاستقلال الفعلي عن كل مركز سياسي ضعيف التأثير.
ولم تكن العلاقة مع السلطات القائمة في الحجاز أو العراق علاقة خضوع دائم، بل كانت قائمة على المصالح المتبادلة، وحين تمسّ السيادة الكرامة، كانت السيوف تخرج من أغمادها بلا تردد.
بطولات في وجه الغزو العثماني
عندما بدأت الدولة العثمانية في فرض نفوذها على نجد عبر حملات متعددة، لم تكن السهول من تلك القبائل التي ترحّب بالجنود الغرباء، بل كانت من أوائل من واجه الاحتلال العثماني بمواقف بطولية خالدة.
من أبرز تلك المواقف:
- التصدي لحملة موسى كاشف، وهو أحد القادة العثمانيين الذي حاول التقدم في نجد، فقابلته السهول بمواجهة شرسة أودت بحياته وحياة أكثر من 300 من جنوده، وفرّ الباقون يجرّون أذيال الهزيمة.
- اشتراكها في سبع معارك كبرى ضد العثمانيين، لم تُهزم في أي منها، بل كانت في كل مرة تفرض على الخصم حسابًا جديدًا للقبيلة، وتُعيد رسم معادلة القوى في الإقليم.
شجاعة تُروى جيلاً بعد جيل
في المجالس البدوية، تُروى القصص لا للتسلية، بل للتربية. وقصص السهول لا تنتهي: عن الفارس الذي لم يعد من المعركة حتى ردّ كرامة شيخ، أو عن الفتى الذي واجه وحده عصبة من الأعداء لينقذ قافلة، أو عن الشاعر الذي رثى أخاه الشهيد بكلمات بكت لها السيوف.
وهنا تظهر ميزة السهول: أنها لم تكن قبيلة تتغنى بالبطولات الماضية فقط، بل كانت تصنعها وتُروّثها.
من سيوف الرجال إلى مواقف الشيوخ
لم تكن الشجاعة محصورة في ميادين القتال، بل انتقلت إلى مواقف الحكمة عند شيوخ القبيلة، الذين عرفوا متى يُصلحون، ومتى يقفون، ومتى يُغضبون. فكان الشيخ في السهول فارسًا بحنكته، لا بفرسه فقط. وكانت كلمته فصلًا في المجالس، لا تُكسر ولا تُشترى.
قبيلة السهول والدولة السعودية عبر عصورها الثلاثة
منذ أن بدأت فكرة الدولة السعودية تتبلور في قلب نجد، لم تكن تحتاج فقط إلى دعوة دينية أو مشروع سياسي، بل كانت بحاجة إلى رجالٍ يعرفون معنى الولاء، ويضعون أرواحهم في كفّوفهم حين تُنادى المعركة. وهنا لم تتردد قبيلة السهول، بل كانت من أوائل من لبّى النداء، فدخلت التاريخ من أبواب البطولة، وساهمت في رسم ملامح وطنٍ ما يزال ينهض بثبات.
الدولة السعودية الأولى: ولاء منذ اللحظة الأولى
حين بزغ نجم الشيخ محمد بن عبدالوهاب بدعوته الإصلاحية، وتحالف مع الإمام محمد بن سعود في الدرعية عام 1157هـ/1744م، لم تكن المهمة سهلة، بل كانت محفوفة بالمخاطر. وكانت قبيلة السهول من أوائل القبائل النجدية التي وقفت إلى جانب هذا المشروع، إيمانًا منهم بالدعوة، ورفضًا للفوضى التي كانت سائدة آنذاك.
فلم يكن دعمهم سياسيًا فقط، بل قدّموا الرجال والسيوف، وشاركوا في المعارك الأولى لتوحيد أجزاء من نجد. وقد استقرت علاقتهم بالإمام عبدالعزيز بن محمد، ثم الإمام سعود الكبير، وكانت لهم مواقف ميدانية بارزة في معارك الجنوب والقصيم.
سقوط الدولة الأولى… والسهول في زمن الصدمة
عندما سقطت الدولة السعودية الأولى عام 1818م على يد إبراهيم باشا ابن والي مصر، وهُدمت الدرعية، ودُكّت بيوتها، كانت قبيلة السهول من القبائل التي تلقت الضربة، لكنها لم تنكسر. فقد احتضنت فلول المجاهدين، وأعادت تنظيم صفوفها، وظلت متمسكة بالوفاء القديم.
كانت تلك المرحلة مرحلة صمت وصبر، لا مرحلة انسحاب، وهو ما أثبتته الأحداث اللاحقة.
الدولة السعودية الثانية: عهد الصلابة والثبات
مع انبعاث الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبدالله عام 1240هـ/1824م، كانت السهول من أوائل من انضموا من جديد إلى راية آل سعود. وكان لهم دور فعّال في إعادة السيطرة على الرياض، ثم التوسع في القصيم والأحساء.
ومن أبرز بطولاتهم في هذا العهد:
- معركة السبية عام 1245هـ/1830م، حيث قاتلوا إلى جانب الإمام تركي ضد قوات بني خالد، وساهموا في تحقيق نصر استراتيجي أدى إلى استعادة السيطرة على الأحساء والقطيف.
- في مواجهة إحدى الحملات العثمانية بقيادة موسى كاشف، أبدت السهول شجاعة نادرة، وتمكنت من قتله مع عدد كبير من جنوده، فيما هرب الباقون، وقد سُجل ذلك في الروايات النجدية بوصفه موقفًا فصلًا من فصول المجد.
ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة، بل واجهت القبيلة أكثر من سبع معارك مباشرة مع قوات الدولة العثمانية، لم تُهزم فيها، مما أكسبها احترامًا كبيرًا في الأوساط القبلية، وسمعة لا تُضاهى.
الدولة السعودية الثالثة: من معركة الرياض إلى وحدة الوطن
حين خرج الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من الكويت عام 1319هـ/1902م متجهًا إلى الرياض لاستعادتها من آل رشيد، لم يكن يحمل جيشًا كبيرًا، بل كان يبحث عن رجال يعرف أنهم لا يخونون العهد. فوجد في قبيلة السهول الحلفاء الأشدّاء.
شاركت السهول في فتح الرياض، وكانت من أولى القبائل التي التحقت براية التوحيد، ورافقت الملك عبدالعزيز في حملاته التوسعية، من نجد إلى الأحساء، ومن عسير إلى الحجاز.
وفي إحدى مجالسه، قال الملك عبدالعزيز قولته الشهيرة:
“أشجع من طارد معي هم السهول.”
وهذه ليست مجاملة ملك، بل شهادة قائد يعرف قدر الرجال، وقدر الوفاء.
من السلاح إلى البناء: التحول الحضاري
بعد اكتمال التوحيد واستقرار الدولة، لم تترك قبيلة السهول الساحة، بل تحوّلت من بندقية الفارس إلى قلم الإداري، ومن سيف القتال إلى مجهر التنمية. فقد انخرط أبناؤها في مؤسسات الدولة: في الجيش، والشرطة، والتعليم، والإدارة، والاقتصاد.
وكانت لهم بصمات واضحة في التأسيس الحديث للمملكة، عبر نخبة من المسؤولين، والشيوخ، والأعيان، الذين ظلوا أوفياء للعهد الأول، عاملين في ظل الدولة، لا في ضوء الشهرة.
ثلاث دول… وولاء لا يتغيّر
ما يُدهش في تاريخ السهول مع الدولة السعودية أنهم كانوا حاضرين في جميع مراحلها: من التأسيس الأول، إلى الانبعاث الثاني، إلى النصر الثالث. وما تغيّرت مواقفهم رغم تقلب الزمن، ولا ضعفت عزيمتهم رغم تغيّر الحُكام. ظلوا دائمًا: سيفًا للدولة، ودرعًا للوطن، وحصنًا للكرامة.
البناء والنهضة في العهد الحديث
حين وضعت الدولة السعودية الثالثة لبناتها الأخيرة، وانتقل الوطن من زمن الحروب إلى عهد الاستقرار والتنمية، لم تترك قبيلة السهول موقعها في قلب الأحداث. بل تحوّلت، كما يجب أن تفعل القبائل العظيمة، من سيوف تقاتل في الميدان، إلى سواعد تبني وتزرع وتُعلِّم. كانت السهول من القبائل التي استوعبت معنى الدولة، واستجابت للتحول، دون أن تتخلى عن هويتها أو مبادئها.
من الخيمة إلى المدرسة… والتحول السلس
لم يكن الانتقال من حياة البادية إلى حياة المدن بالأمر الهيّن. فالخيمة التي كانت رمز الكرم، أصبحت اليوم تُستبدل بمنزلٍ حديث. لكن السهول عرفوا كيف يخوضون هذا التحدي دون أن يخسروا ذاكرتهم. دخل أبناؤهم المدارس في أوائل مراحل التعليم النظامي، وبرزوا في الجامعات، ثم تخرجوا كمهندسين، ومعلمين، وأطباء، وضباط.
وقد تميز أبناء القبيلة بقدرتهم على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، فكانوا يرتدون الثوب والغترة، لكن يحملون في عقولهم مفاهيم الإدارة، وفي أيديهم أدوات التكنولوجيا، وفي قلوبهم ولاء لا يتزحزح.
في مؤسسات الدولة: حضور لا يُنكر
في وزارات الدولة المختلفة، من الداخلية والدفاع إلى التعليم والعدل، تجد أبناء السهول حاضرون بفاعلية. وقد برز من بينهم ضباط كبار وقضاة ومستشارون وأكاديميون، لم تذهب أسماؤهم في زحمة المناصب، بل كانت تُذكر حين يُذكر الإخلاص والنجاح.
ولا تخلو قوائم التكريم والجوائز الوطنية من أبناء هذه القبيلة، الذين برزوا في ميادين متفرقة، من القيادة العسكرية إلى التميز التعليمي، ومن الطب إلى العمل التطوعي.
رجال الاقتصاد وريادة الأعمال
كما برز رجال السهول في الوظائف العامة، كان لهم أيضًا حضور قوي في القطاع الخاص، فأنشأوا شركات، وأسسوا مشروعات ناجحة، بعضها في الزراعة، وبعضها في العقار، وبعضها في التقنية والتجارة الإلكترونية، مستفيدين من دعم الدولة، ومستندين إلى إرث قبلي يؤمن بأن العزة لا تأتي من الخمول.
ويُذكر في هذا السياق، أن عددًا من رجال الأعمال السهول ساهموا في دعم مبادرات مجتمعية في قراهم ومناطقهم، من بناء المساجد، إلى دعم جمعيات خيرية، وحتى تمويل منح دراسية لشباب القبيلة.
التعليم: طريق المجد الحديث
من أبرز ملامح نهضة السهول في العصر الحديث، الانخراط العميق في التعليم. فإلى جانب التعليم النظامي، أنشأ بعض أبناء القبيلة مبادرات أهلية لتعليم القرآن، واللغة، والتاريخ، وفتحوا أبواب المعرفة لأبناء القبيلة في المدن والقرى.
وقد حصل بعض أبناء القبيلة على درجات علمية عليا من جامعات سعودية وعالمية، وشاركوا في مؤتمرات وندوات، وكتبوا أبحاثًا علمية في الطب والهندسة والاجتماع والدين.
وكانت المرأة السهليّة حاضرة أيضًا في هذا المسار، فدخلت الفصول، ثم المكاتب، ثم المختبرات، وشاركت في التنمية التعليمية والصحية، دون أن تتخلى عن حشمتها ولا عن دورها الأصيل في الأسرة والمجتمع.
تمسك بالهوية رغم الحداثة
وسط هذا الزخم الحضاري، لم تذُب هوية السهول كما ذابت هويات أخرى. بل بقيت الراية مرفوعة، والاسم محفوظ، والتاريخ يُدرس للأبناء، والقصائد تُتلى في المجالس، والمناسبات القبلية تُقام كل عام. ومن اللافت أن أبناء القبيلة أنشؤوا منصات إلكترونية ومجالس رقمية تُوثق تاريخهم، وتنشر أخبارهم، وتربط أبناء القبيلة في الداخل والخارج.
الشيوخ… حُكماء زمن الهدوء
كما كان شيوخ القبيلة في زمن الحرب يُعرفون بالبأس، فهم اليوم يُعرفون بالحكمة. يتدخلون في الصلح، ويقودون المجالس القبلية، ويُحافظون على وحدة الصف، ويُوجهون الشباب نحو التعليم والالتزام والولاء للدولة. وكثير منهم حصل على أوسمة ملكية وتكريم رسمي لمواقفه الوطنية.
السهول في الرؤية السعودية
في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومع إطلاق رؤية المملكة 2030، كانت قبيلة السهول حاضرة أيضًا، إذ انخرط أبناؤها في برامج التطوير، وشاركوا في قطاعات السياحة والتقنية والاستثمار، وساهموا في بناء المستقبل كما ساهم أجدادهم في تأسيس الماضي.
إرث بني كلاب الذي يسكن في السهول
لا يُمكن فهم قصة قبيلة السهول كاملة دون أن نعود إلى جذورها الأولى، إلى الإرث الممتد من بني كلاب، تلك القبيلة التي كانت في يومٍ ما إحدى أعمدة القوة في نجد، ثم تحوّلت إلى إمبراطورية في الشام، وأسست حكمًا في حلب، قبل أن يعود جزء من فروعها ليستقر في قلب الجزيرة ويُعيد تشكيل نفسه في هوية جديدة تُدعى: السهول.
هذه ليست مجرد سلالة، بل حكاية تنتقل من جيل إلى جيل، ومن صهوة حصان إلى قلم مؤرخ، ومن سيف قاتل في بئر معونة إلى مسؤولٍ في منصب رفيع. إرث بني كلاب لم يمت، بل تغيّر شكله، واستمر حيًا في السهول.
من نجد إلى الشام… بداية التوسع
كان بنو كلاب، فرعًا من عامر بن صعصعة، من القبائل القيسية التي سكنت نجد منذ الجاهلية. وقد كانوا أهل بأسٍ وفروسية، يتزعمون التحالفات، ويخوضون المعارك بشجاعة مدهشة. ومع الفتوحات الإسلامية، بدأت بعض بطونهم تتجه شمالًا نحو العراق والشام، باحثين عن موارد ورزق وموطئ قدم في الحواضر الجديدة.
استقر جزء منهم في منطقة حلب، وفرضوا أنفسهم كقوة قبلية، استطاعوا من خلالها تأسيس حكم مستقل بقيادة صالح بن مرداس الكلابي.
إمارة بني كلاب… دولة قبل الدولة
عام 1025م، نجح صالح بن مرداس في تأسيس إمارة المرداسيين، والتي اتخذت من حلب عاصمة لها، وبسطت نفوذها على شمال سوريا وغرب العراق. وكانت من أولى التجارب القبلية في الحكم المستقل داخل العالم الإسلامي بعد الخلافة، مما يدل على أن بني كلاب لم يكونوا فقط فرسان بادية، بل أيضًا قادة سياسة، يملكون الحس الإداري، والقدرة على الحكم.
وقد حافظت هذه الإمارة على مكانتها لأكثر من نصف قرن، قبل أن تنهار بسبب الصراعات الداخلية، وضغوط الدولة الفاطمية، وغزو السلاجقة.
الانهيار في الشمال… والبقاء في الجنوب
رغم سقوط الإمارة، لم يسقط المجد. فبينما تشتت رجال بني كلاب في شمال الشام، كانت الفروع التي بقيت في نجد تبني بهدوء، وتحافظ على نقائها ونسلها، وتعيد ترتيب صفوفها على الأرض التي عرفتهم أولًا.
ومن بين تلك الفروع، برز سهل بن عامر بن صعصعة، الذي انتسبت إليه لاحقًا قبيلة السهول، لتكون الامتداد الطبيعي لبني كلاب في الجزيرة، ولكن بهوية حديثة، واسم مختلف، وروح تجمع بين الأصل والتجدد.
الذاكرة الحية… كيف حافظت السهول على إرثها؟
ما يُميز السهول عن غيرها من فروع بني كلاب، هو قدرتها على صيانة الذاكرة. فبينما اندثرت أسماء كثيرة، ظلت السهول تُدرّس أبناءها نسبها، وتحفظ شعر أجدادها، وتُغذي فيهم الشعور بالانتماء إلى أصلٍ أكبر من الحدود والمكان.
وكانت المجالس الشفهية بمثابة مدارس للتاريخ، تُروى فيها بطولات بني كلاب، وتُربط بالواقع المعاصر، حتى يشعر الفتى السهلي أنه لا يسير وحده، بل وراءه ألف فارس، وتاريخ من الكبرياء.
من المجد القديم إلى الدور الحديث
لم يكن إرث بني كلاب مجرد قصة ماضية، بل كان بمثابة شيفرة سلوكية بقيت حية في أخلاق السهول: في كرمهم، في ثباتهم، في استقامتهم، وفي ولائهم للحق. فكما وقف رجال كلاب في وجه تميم وأسد في الجاهلية، وقف رجال السهول في وجه العثمانيين، وشاركوا في توحيد الوطن، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بأسماء جديدة.
رمزية لا تزول
حين يفتخر أحد أبناء السهول بنسبه، فهو لا يتحدث عن مجرد نسبٍ عابر، بل عن قصة وطن متنقلة، بدأت من نجد، وطافت الشام، ثم عادت إلى الصحراء، لتحمل رأية العز والقوة والبطولات والتاريخ العريق.